بعد أكثر من عام بقليل من ادعاء صحيفة نيويورك تايمز بشكل زائف أن “معظم” عرب يافا في عام 1948 “تم تهجيرهم قسرًا”، توجهت الصحيفة المعروفة أنظارها إلى مدينة كبيرة أخرى، هي حيفا، حيث غادر سكانها العرب بسبب قرارات قياداتهم. في مقال تناول الفنانة الإسرائيلية نعومي سافرون هون، التي تركز أعمالها على تصوير المنازل المهجورة، كتب الصحفي سيف رودني في صحيفة ” نيويورك تايمز”:
توثق الصور المكان الذي نشأت فيه [سافرون هون]: حيفا، مدينة ساحلية على البحر المتوسط في إسرائيل، حيث أُجبر المواطنون الفلسطينيون والعرب على المغادرة أو فروا خلال حرب 1948 العربية الإسرائيلية”.
تقرير رودني حمل عنوان “لوحات تهدم الأساطير حول ما يجب أن يكون عليه المنزل”. لوحات نعومي سافرون-هون الملموسة للمنازل المهجورة تلمح إلى علاقاتنا المعقدة والمتناقضة مع الأماكن التي نعيش فيها. عموما فإن سافرون هون، التي تعتبر رافضة ضميرية للخدمة في الجيش الإسرائيلي (“أردت أن أغادر؛ لم أحب إسرائيل، لم أحب السياسة هناك؛ شعرت بالقمع والصراع”)، هي شخصية فكرت كثيرًا في مسألة الأساطير مقابل الحقيقة.
فيما يتعلق بالرسم، هناك شعور بالوهم. أنا مهتمة بالأسطورة، وبخلق عالم داخل اللوحة. آخذ صورًا من هذا الحي في حيفا وأعيدها إلى مرسمي في بروكلين، وأقوم بتدمير الصورة خلال عملية صنع لوحاتي. أخلط فكرة ما هو الحقيقة مع الإسمنت والدانتيل، لذلك إذا كنت أستخدم مواد حقيقية في اللوحة، فما هي الحقيقة؟ وأين تكمن الخيال؟
في المكان الذي أتيت منه، هناك الكثير من بناء الأساطير. عند بناء أمة، يجب أن تخلق شعورًا بالأسطورية. كيف نُعيد صياغة القصة من أجل خلق أيديولوجيا؟ وأعتقد أن اللوحات تحاول أن تسأل المشاهد: ماذا ترى على أنه حقيقي؟

في حين أن الفن بطبيعته يتيح تجربة ذاتية بين الأسطورة والواقع، مع التجريب وطمس الحدود بين العالمين، فإن الصحافة ليست كذلك. وبالتالي، لا يمكن لصحيفة “نيويورك تايمز” أن تدعي في عام 2020 أن “المواطنين العرب في [حيفا] أُجبروا على المغادرة أو فروا خلال حرب 1948” إذا كان السجل التاريخي، بما في ذلك تقارير الصحيفة نفسها من تلك الفترة، يثبت عكس ذلك. (يشير مصطلح “فروا” بالطبع إلى وجود خطر على أولئك الذين بقوا. ورغم أن حيفا كانت مسرحًا لمعركة شرسة شملت قصفًا من كلا الجانبين، مما يعرض المدنيين على كلا الطرفين للخطر، إلا أنه لم يكن هناك خطر يستهدف بشكل خاص السكان العرب ويجبرهم على المغادرة أو الفرار).
في الواقع، يظهر من خلال مراجعة شاملة لتغطية صحيفة “نيويورك تايمز” لتلك الفترة عدم وجود أي إشارة إلى طرد قسري للعرب في حيفا أو أي جهد يهودي لدفعهم إلى المغادرة. بل، وفقًا لتقارير الصحيفة نفسها، كان القرار بإجلاء السكان العرب من المدينة الشمالية من قبل القيادة العربية عندما سيطرت الهاغاناه على المدينة.
تعريف من المترجم الذي لا يتضمنه النص الأصلي: الهاغاناه هي منظمة عسكرية يهودية تأسست على أرض فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني، وتعتبر وفقا للمراجعات التاريخية من أبرز القوات العسكرية التي ساهمت وساعدت في تدشين دولة إسرائيل. ويعود تاريخ تأسيس الهاغاناه إلى عام 1920 ، وجاء تدشينها كرد فعل مباشر على التهديدات التي واجهها الشعب اليهودي في فلسطين، حيث كانت تهدف إلى حماية المجتمعات اليهودية هناك من الهجمات الفلسطينية والعربية.
في مقالة نُشرت بتاريخ 23 أبريل 1948، ذكرت الصحيفة:
“فرّ عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال العرب نحو الأطراف الشرقية للمدينة باستخدام السيارات والشاحنات والعربات أو سيرًا على الأقدام في محاولة يائسة للوصول إلى الأراضي العربية. قام اليهود بالسيطرة على جسر رشمية المؤدي إلى السامرة وشمال فلسطين وقطعوا الطريق عليهم. وتدافع الآلاف نحو أي وسيلة متاحة، حتى القوارب الصغيرة، للهروب بحرًا باتجاه عكا…
بدأ الإجلاء الكامل للعرب من حيفا الليلة الماضية بمساعدة من وسائل النقل العسكرية البريطانية، كما أفادت إذاعة الهاغاناه في آخر بث لها.
وقد جرى اللقاء بين قادة الهاغاناه والقادة العرب بحضور القائد العسكري البريطاني ومفوض المنطقة في الساعة السادسة مساءً في دار البلدية، وفقًا للبث. وغادر القائد العربي للتشاور مع زملائه، وعاد بعد ساعة ونصف، حيث تم اتخاذ قرار الإجلاء بدلاً من تطبيق شروط الهدنة فورًا.
وكان اليهود قد أصدروا في وقت سابق أمرًا بوقف إطلاق النار وقدموا شروط الاستسلام التالية
1. تسليم جميع الأسلحة وتسليمها لليهود
2. ترحيل جميع المقاتلين العرب الأجانب من حيفا
3. فرض حظر تجول لمدة 24 ساعة، يتم خلالها تنفيذ عملية نزع الأسلحة من قبل اليهود
4. تسليم جميع الألمان والنازيين الموجودين في صفوف العرب
5. حرية الحركة للجميع ووقف القنص وإقامة الحواجز
6. ضمان سلامة جميع المواطنين من قبل الهاغاناه. (تم إضافة التأكيدات لتوضيح النقاط المهمة)
وهكذا، بينما حمل المقال عنوان “اليهود يسيطرون على حيفا في معركة عنيفة؛ العرب يوافقون على المغادرة”، فإن المقال نفسه أوضح أن الهاغاناه عرضت السلامة على جميع المواطنين، بينما قررت القيادة العربية رغم ذلك إجلاء السكان. وقد طالب الصهاينة فقط بترحيل المقاتلين العرب الأجانب مع الألمان والنازيين الذين انضموا إلى القوات العربية.

في الواقع، أوضح تقرير نشرته “نيويورك تايمز” بعد ثلاثة أيام من ذلك بشكل قاطع أن إجلاء السكان العرب كان قرارًا اتخذته قياداتهم. التقرير، الذي حمل عنوان “العرب ينهون إجلاء حيفا”، ذكر ما يلي:
“اليهود الذين سيطروا على هذه المدينة يوم الخميس حققوا انتصارًا للسلام اليوم عندما وافق القادة العرب مبدئيًا على وقف إجلاء شعبهم”. وكان يُعتقد أن بين 15,000 و 20,000 من العرب ما زالوا في المدينة من أصل أكثر من 60,000. وقد أفادت الشرطة أن حوالي 700 شخص عادوا اليوم من المناطق النائية التي فروا إليها. حيفا، 25 أبريل (UP).
كما كتب جلعاد عيني من كاميرا سابقًا، أن قرار العرب المفاجئ بإصدار أمر بالإجلاء الكامل رغم عرض الهدنة الذي كان يضمن حماية السكان،
دفع عمدة المدينة اليهودي، شبتاي ليفي، إلى مناشدة قادة العرب بالبكاء لإعادة النظر في القرار. كما طمأن ممثل الهاغاناه الرئيسي في حيفا العرب أنه إذا بقوا، “فإنهم سيستمتعون بالمساواة والسلام، وأننا نحن اليهود مهتمون ببقائهم والحفاظ على علاقات منسجمة.” وأصر القائد البريطاني في حيفا، هيو ستوكويل، بشكل قاطع على أن العرب كانوا يرتكبون خطأ، وحثهم أيضًا على تغيير قرارهم، الذي وردت تقارير أنه جاء من اللجنة العربية العليا في بيروت.
حتى في الوقت الذي كان فيه عرب حيفا يغادرون المدينة على متن السفن والشاحنات البريطانية، استمر الطبقة الحاكمة اليهودية في الدعوة إلى إنهاء النزوح والتمسك بعودة من غادروا. “يتم بذل كل جهد من قبل اليهود لإقناع السكان العرب بالبقاء ومواصلة حياتهم الطبيعية”، حسبما أفاد مفتش الشرطة البريطاني. اعترف عضو اللجنة الوطنية العربية، فريد سعد، أن القادة اليهود “نظموا حملة دعاية كبيرة لإقناع العرب بالعودة”.
تُظهر السجلات التاريخية أيضًا أنه قبل انتصار الهاغاناه في حيفا، كان القادة العرب هم من حثوا على إجلاء عرب المدينة، بينما كانت القيادة اليهودية والبريطانية تدعو المدنيين للبقاء. كما أن النزوح المبكر للنخبة العربية، في كثير من الأحيان قبل بدء القتال حتى، قد عزز الهروب، لا سيما من حيفا. كما كتب المفوض السامي البريطاني لفلسطين، سير آلان كينغهام، في برقية بتاريخ 26 أبريل 1948:
في حيفا، غادر الأعضاء العرب في البلدية منذ وقت طويل؛ حيث غادر قادة جيش التحرير العربي أثناء المعركة الأخيرة. والآن غادر كبير القضاة العرب. في جميع أنحاء البلاد، كانت طبقة “الأفندي” (الطبقة الرفيعة) تُغادر بأعداد كبيرة على مدى فترة طويلة، وقد تزايد الإخلاء بشكل ملحوظ.
كما ذكر سابقًا تقرير كاميرا الذي كتبه عيني:
بعد أن غادر كبير القضاة العرب في حيفا، وصف تقرير استخباراتي بريطاني هذا الفعل بأنه “ربما كان العامل الأكبر في تدمير معنويات مجتمع حيفا”.
قادة فلسطينيون أيضًا وجهوا تعليمات صريحة للفلسطينيين بمغادرة منازلهم. فقد قال المفتي الأكبر للقدس، الحاج أمين الحسيني، لوفد من عرب حيفا في يناير 1948 إنه يجب “إخلاء النساء والأطفال من المناطق الخطرة لتقليل عدد الضحايا”، واستمر في تشجيع عمليات الإخلاء في الأشهر التي تلت ذلك.
أرشيف “نيويورك تايمز” يحتوي على تقرير عن الاستيلاء على منزل أحد سكان حيفا: فقد استولت السلطات البريطانية على منزل لاجئ من الهولوكوست من ألمانيا كان يزور الولايات المتحدة حيث توفي. وذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” عن وفاة ألفريد هيرش (“الاستيلاء على منزل في حيفا؛ زائر إلى [نيويورك] يلقى حتفه”، 8 فبراير 1947).
حدثت وفاته بعد أن تلقى خبرًا يفيد بأن منزله على جبل الكرمل في حيفا قد تم الاستيلاء عليه من قبل الجنود البريطانيين الذين قاموا بطرد ابنه وابنته، حسبما قالت زوجة شقيقه.
وعندما يتعلق الأمر بتغيير القصة من أجل خلق أيديولوجية، كما تقول الفنانة سافرون-هون، فإن صحيفة “نيويورك تايمز” تتفوق في هذا المجال. حتى تقارير الصحيفة السابقة التي وثقت تلك القصة كما حدثت بالفعل لا تشكل عائقًا أمام التلاعب لصالح الأيديولوجيا.
أنظر التقرير الصادر عن الموضوع باللغة الإنجليزية في موقع (كاميرا)