تضمنت حلقة 24 أكتوبر/تشرين الأول 2023 من البرنامج الإذاعي “دردشة ليلية” على قناة “بي بي سي عربي”، مقابلة مع مهندس بيئي عربي إسرائيلي يُدعى عمر عاصي، الذي عرّف عن نفسه بأنه من سكان “داخل فلسطين”، الذي وصفه بأنه “مقيم في الداخل الفلسطيني”، وبالإضافة لذلك وصفته مقدمة الحوار بأنه متصل من “فلسطين”.
في تلك المقابلة – التي قدمتها مراسلة “بي بي سي عربي” هبة عبد الباقي – تعرّف المستمعون على مشروع عاصي؛ وهو عبارة عن خريطة صديقة للأطفال لـ”فلسطين” من النهر إلى البحر، كما تم الترويج للخريطة ورابط البرنامج على صفحة “بي بي سي نيوز” العربية على الفيسبوك.
في الدقيقة (26:55): “ما يميز هذه الخريطة هو أننا نرى الكثير من التنوع، الكثير من الألوان فيها، والألوان في الواقع ليست مصادفة، بمعنى أن في فلسطين، يقال إنه في أوقات معينة من السنة، يشعر الإنسان بوجود الأربعة فصول المختلفة في العالم بنفس اليوم، حيث نشعر بالصيف في النقب، ونشعر بالشتاء في المناطق الشمالية، فضلاً عن هذا يوجد الكثير من التنوع في فلسطين، من حيث المناخ، خصوصا التنوع البيولوجي (الطبيعي)، وهكذا، فإذا نظرنا إلى الخريطة سنرى أن في يافا فاكهة البرتقال، وفي الخليل هناك فاكهة العنب، وفي نابلس تتم صناعة الكنافة “هي نوع من الحلوى الشرقية”، وفي القدس يوجد كعك، كل هذا التنوع يستحيل أن يحصل عليه الطفل من الخرائط التي يراها في المدارس، الخرائط التقليدية، هذا إذا كان يرى خرائط فلسطين، أعني أن العديد من الأطفال مثلي، الذين ذهبوا إلى المدارس التي يطلق عليها “المدارس العربية الإسرائيلية”، أطفال من داخل فلسطين، لا يرون خرائط فلسطين، لكن يروْن خرائط إسرائيل.”
الخريطة التي عرضتها “بي بي سي عربي” خالية من أي شيء يدل على الهوية الإسرائيلية أو اليهودية، بما في ذلك السكان (جميع الأشخاص الذين تم تصويرهم عرب أو مسلمون بشكل واضح)، والمعالم (المعلم اليهودي الوحيد الموضح هو الحرم الإبراهيمي في الخليل – انظر أدناه)، أو المدن (يافا محاطة بالبساتين دون أي إشارة إلى وجود تل أبيب على الإطلاق، أو أن اليهود يشكلون أغلبية في المدن المختلطة مثل حيفا وعكا التي تظهر على الخريطة). من الواضح أن العرض بهذه الصورة كان مقصوداً، لأن عاصي (المتحدث) قال لاحقًا، وتحديداً في الدقيقة (30:27) من المقابلة؛ إنه عاش ودرس في تل أبيب، وكان على اتصال مع الطلاب اليهود في بداية حياته الشبابية.
ورداً على أسئلة أخرى من المقدمة، أوضح عاصي تأثير الخريطة في تشكيل عقول الشباب الفلسطيني وتثقيفهم حول ما أشار إليه هو بالدقيقة (30:06) والمحاورة أيضاً في الدقيقة (32:48) فيما يتعلق بالأزمة الفلسطينية، أو ما يعرف عربياً بـ”القضية الفلسطينية”.
وأعرب المتحدث عن قناعته في الدقيقة (32:59) بأن الرسوم التوضيحية للأماكن على الخريطة ستدفع الأطفال إلى معرفة المزيد عن القصص التي تقف وراءها، خصوصاً تلك التي تتعلق بالنضال الوطني الفلسطيني.
“(33:43) إذا ذهب وزار الخليل، ورأى أن المجمع الإبراهيمي “أي مغارة الأولياء” اليوم منقسمة بين اليهود والمسلمين، يعني أن اليهود سيطروا على جزء كبير منها، وسيرى أيضاً الحواجز العسكرية”.
وفي مثال آخر، كشف عاصي أيضاً (32:17) أن الرسم التوضيحي الذي يبدو بريئًا لـ “كعك القدس” هو في الواقع إشارة إلى رواية “أمير الظل… مهندس على الطريق” – وهي سيرة ذاتية للقيادي الحمساوي عبد اللـه البرغوثي، حيث عبر عاصي في حديثه عن حبه له.
(توضيح إضافي: كتب الإرهابي عبد اللـه البرغوثي، المسجون في إسرائيل رواية “أمير الظل… مهندس على الطريق”، ويتحدث البرغوثي في الرواية عن برنامجه التدريبي الذي قام خلاله بانتقاء أفضل شباب كتائب القسام).
والمعروف أن البرغوثي هو صانع قنابل حُكم عليه بالسجن المؤبد لـ 67 سنة، أحكاما متتالية لدوره في قتل 66 إسرائيليًا في العديد من التفجيرات الانتحارية خلال أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
جدير بالذكر أنه في تدوينة كتبها عاصي في عام 2017، لوكالة أنباء غزة “شهاب” المرتبطة بحماس، اعترف بأن رواية الإرهابي عبد اللـه البرغوثي قد “أبهرته”.
واختتمت المقابلة بتمنّي عبد الباقي (36:35) لعاصي وفريقه من الرسامين “حظاً سعيداً لكم جميعاً”. كان ذلك بعد أن سمعته بالفعل يدلي بالبيان التالي في مقدمة المادة:
ويقول عاصي: “(0:40) إن حلمي أن يعلق كل طفل فلسطيني هذه الخريطة في غرفة نومه، حتى يتمكن من رؤية سمات أرض فلسطين ويحبها بنفس الطريقة التي يحبونه بها”.
إن مشروع عاصي ينتمي إلى نوعية المشاريع التي تروّج لفكرة “فلسطين الكبرى”، وهي من المشاريع التي اعتاد الإسرائيليون رؤيتها على يد الناشطين المتطرفين، بما في ذلك البعض من مواطني بلدهم (كما هو معروض في هذا الحوار، حيث إن عمر عاصي مواطن إسرائيلي)، ومع ذلك، نادراً ما يتم تضخيم هذا النوع من الأفكار التي تتضمن مصطلحات تحث على الكراهية في وسائل الإعلام الغربية؛ وهو أمر مؤكد بالطبع. ومع ذلك، لم تقم المذيعة هبة عبد الباقي، مراسلة بي بي سي، طوال اللقاء بمناقشة أو انتقاد أو حتى التعاطي مع تداعيات طرح أفكار عاصي، وتحديدا غرس مثل هذه النوعية من الأفكار في عقول الأطفال الصغار، باستخدام خريطة متخيلة لــ”فلسطين” تمحو إسرائيل من الوجود.
ولم تسأل مذيعة بي بي سي العربي “عاصي”، عن كيفية ارتباط “القضية الفلسطينية” التي يروّج لها، بملايين اليهود الإسرائيليين ممن يعيشون منذ عقود في هذه الأرض أقدم منه، بل إنها وصفت بنفسها المادة الصحفية التي ناقشتها في البرنامج بأنها قادمة من “فلسطين” (0:38)، وهو نفس النهج التحريري الذي انتهجته صفحة بي بي سي نيوز العربية على الفيسبوك. ومن خلال الترويج لهذا المقال، فإن بي بي سي عربي، تروّج لـ”إنكار” حق إسرائيل في الوجود داخل أي حدود، وإنكار حق اليهود الإسرائيليين في العيش بسلام في وطنهم، كما أن ذكر عاصي لعبد اللـه البرغوثي يؤدي أيضاً إلى تعميم الدعم الضمني للإرهاب ضد المدنيين الإسرائيليين.
عموما، ينص “دليل الأسلوب” الخاص بأكاديمية بي بي سي على أنه لا ينبغي لصحفيي بي بي سي “إلصاق اسم “فلسطين” على غزة أو الضفة الغربية”، لكن يبدو أن من وضعوا هذا الدليل لم يأخذوا في الاعتبار أن محتوى بي بي سي قد يروّج لاستخدام مصطلح “فلسطين” بدلاً من إسرائيل.
وبالمثل، فإن المبادئ التوجيهية لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أو مكتب OFCOM تعني برصد حجم “الضرر والجرم” الذي يتسبب فيه محتوى يروج لإنكار وجود دولة ذات سيادة، ويمنح حق تقرير المصير لأشخاص ينتمون إلى عرقية معينة، ربما لأن مؤلفي هذه المبادئ لم يعتقدوا حصول هذا السيناريو في بريطانيا “المستنيرة” في القرن الحادي والعشرين.
ورغم أن تنص المبادئ التوجيهية التحريرية لهيئة الإذاعة البريطانية بشأن “المواضيع المثيرة للجدل” (4.3.6) على ما يلي:
“عند التعامل مع المواضيع المثيرة للجدل، يجب علينا التأكد من إعطاء مجموعة واسعة من وجهات النظر ووجهات النظر المهمة الوزن والأهمية الواجبين، خصوصا عندما يكون الجدل ساخناً.”
فإنه من الواضح أنه لم يتم تقديم أي منظور بديل لنفي هذا البند لدولة إسرائيل، ومن الواضح أيضا أن صحفي بي بي سي العربي تجاهل المبدأ التوجيهي التحريري (4.3.11) الذي ينص على ما يلي:
“إن المذيعين والمراسلين هم الوجه والصوت العام لبي بي سي – ويمكن أن يكون لهم تأثير كبير على التصورات حول ما إذا كان قد تم تحقيق الحياد الواجب أم لا، لا ينبغي لجمهورنا أن يكون قادراً على معرفة الآراء الشخصية لصحفيينا أو مقدمي الأخبار والشؤون الجارية لدينا من إنتاج بي بي سي، حول مسائل السياسة العامة أو الجدل السياسي أو الصناعي أو حول المواضيع المثيرة للجدل في أي مجال آخر”.
ومن هنا نؤكد أن محتوى بي بي سي باللغة العربية فشل في تلبية معايير الصحافة التي تدعّي المؤسسة المموّلة من الحكومة أنها تتبعها أو تنتهجها.
بقلم: هادار سيلع
أنظر إلى التقرير المنشور بالإنجليزية على موقع “CAMERA UK” التابع لمؤسسة “كاميرا”.