مقدمة من مؤسسة “كاميرا”:
قامت هيئة الإذاعة البريطانية في وقت سابق بإنتاج فيلم وثائقي عن معاناة عدد من الأسر الفلسطينية في ظل الحرب المشتعلة في غزة. وقد عرضت الهيئة في الفيلم قصة الطفل زكريا، مشيرة إلى أنه ينتمي إلى عائلة فلسطينية بسيطة، وأنه طفل عادي لا يرتبط بأي جهة رسمية أو غير رسمية في قطاع غزة.
غير أن الوقائع أثبتت أن زكريا ينتمي إلى عائلة حمساوية، وأنه على صلة وثيقة بعناصر إرهابية مسلحة، بل ويؤدي أدوارًا ذات طابع عسكري، من خلال تلقين الأطفال مبادئ متطرفة وترديد أناشيد حماس التحريضية.
تُظهِر لقطات جديدة “المسعف المتطوع” في بي بي سي وهو يقف مع إرهابيي حماس، ويلوح ببنادقه، ويقود هتافات جهادية – لم يظهر أيٌّ منها في فيلم بي بي سي المُعَقَّم (المعدل) بعناية.
نشرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أخيرًا مراجعتها التحريرية المرتقبة لفيلمها الوثائقي “غزة: كيف تنجو في منطقة حرب”. لكن بدلاً من تقديم فحص موضوعي ودقيق لسلوكها الصحفي، بدا التقرير وكأنه محاولة مؤسسية لتجميل الصورة. ركز التقرير بشكل رئيسي على الراوي الرئيسي للفيلم، عبد الله اليزوري، معترفًا بانتهاكه إرشادات البي بي سي بعدم الكشف عن كونه ابن وزير في حماس. لكن التقرير أغفل تمامًا شخصية الطفل الرئيسية الأخرى في الفيلم: زكريا.
أستطيع الآن أن أكشف عن لقطات وصور جديدة لم تُعرض من قبل تظهر زكريا بصورة مختلفة تمامًا عن تلك التي قدمها الفيلم. هذه المواد تكشف عن واقع أوسع اختارت البي بي سي تجاهله، وهو واقع يتناقض بشكل مباشر مع سرد الفيلم الذي يصور الأطفال الفلسطينيين في غزة كأشخاص يعيشون حياة شبه طبيعية غربية، تعكر صفوها فقط الأعمال العسكرية الإسرائيلية.
يُقدم زكريا في الفيلم كطفل بطل ومتطوع إسعاف. يظهر كصبي شجاع ومبادِر يبلغ من العمر 11 عامًا، يساعد في وسط فوضى الحرب. يصف الراوي، وهو ابن مسؤول في حماس، زكريا قائلاً: “حتى لو كنت طفلًا، عليك أن تجد طريقة لتندمج. زكريا عمره 11 سنة، يعيش وحده في المستشفى، إنه صبور.” يقول زكريا بنفسه: “أصبحت متطوعًا. تتعرف على الصحفيين، تتعرف على الأطباء، تتعرف على المسعفين.”
لأي مشاهد موضوعي، هذه مشاهد تمثيلية يشجع عليها الكبار للعب أدوار الكبار. كمسعف، زكريا غير فعال وغالبًا ما يعيق العمل، لكن الكبار يتسامحون معه. يُكلفه سائق سيارة إسعاف بملء زجاجة ماء، ويسأله شخص آخر كم “شهيدًا” رأى. لاحقًا، يُظهر وهو “يساعد” الصحفيين في تغطية أخبار المستشفى.
لكن أستطيع الآن أن أكشف أن زكريا لا يقتصر فقط على هذا الدور التمثيلي مع سيارات الإسعاف والصحفيين، بل ينخرط بشكل منتظم في أدوار مرتبطة بالإرهاب والتطرف المسلح. فقد تم تصويره وتصويره مرارًا وهو على تواصل مباشر وعاطفي مع إرهابيين من حماس، يرتدي بعضهم أقنعة ويحملون أسلحة، ويرفعون البنادق، ويقودون هتافات جهادية مع أطفال آخرين. هذه الصور والفيديوهات تُنشر على حسابات في وسائل التواصل الاجتماعي يديرها ما يسمى بـ”الصحفيين” في غزة، وقد كشفت عنها مجموعة “Gazawood”، المعروفة بنشر لقطات معدلة أو مُعدة لجذب الجمهور الغربي ووسائل الإعلام هناك. لم يذكر فيلم البي بي سي أيًا من ذلك.
تمجيد العنف
مثل العديد من الأطفال الفلسطينيين، يُشجع زكريا من قبل البالغين حوله على تمجيد العنف والحرب الدينية والأسلحة والإرهاب.
في مقطع فيديو، يقف زكريا أمام خمسة أطفال آخرين يجلسون ويستمعون بينما يلوح بسلاح (أو سلاح مقلد) ويأمرهم بالترديد: “الله أكبر ولله الحمد“.
ثم يضيف:
“اسمعوا جيدًا. قولوا هذا الشعار: ضع السيف ضد السيف. نحن أبناء محمد الضيف” (توضيح: هذا هو شعار حماس والحمساويين المتطرفين).
عندما يسأله شخص بالغ: “من أنت؟” يجيب زكريا: “أنا أبو الزايك من الخدمات اللوجستية.”
في هذا المشهد، لا يمثل دور المسعف، بل قائد لوجستيات إرهابية.
مسيرة حماس من أجل الأطفال
في فيديو آخر، يظهر زكريا مبتسمًا ويحمل ما يبدو بندقية هجومية بجانب مسلح ملثم يرتدي زيًا تكتيكيًا، في تجمع عام قرب ساحل غزة.
يرتدي المسلح معدات تكتيكية كاملة، بما في ذلك ملابس مموهة وسترة واقية من الرصاص وغطاء رأس، مع عصابة رأس خضراء وشارة تبدو أنها تابعة لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحماس. يقف زكريا في المقدمة، مرتاحًا ومبتهجًا بشكل واضح، وهو يمسك السلاح. يضع الإرهابي يده على كتف الصبي في لفتة مألوفة أو وقائية، كما لو كان يشجع على التفاعل. في الخلفية، يمكن رؤية مجموعة من الأطفال والبالغين على منصة مرتفعة، بعضهم يلوح بأعلام خضراء مرتبطة عادةً بحماس. شوهدت شابة محجبة تلتقط صورة سيلفي مع الإرهابيين خلفها، بينما يراقبها أصدقاؤها.
في الفيديو نسمع:
100% أبو الزيك!” (أبو الزايك لقبٌ أو طريقةٌ مألوفةٌ للإشارة إلى زكريا في الثقافة العربية)
يقول له المقاتل: “أنت 100% يا زيكا. ماذا ستفعل؟”
يجيب: “سأقتله بلا رحمة. صوّرني بالسلاح. صوّرني.”
يقول الرجل الذي معه: “أنت وحش يا زيكو. أنت وحش.”
توضيح: في الفيديو، نسمع حوارًا يعزز تمجيد العنف والدموية، مع تعبيرات مثل “أنت وحش يا زيكو“.
هذه الصورة تُجسّد بوضوح تسليح الطفولة. فهي لا تُظهر فقط تطبيع وجود المسلحين في الحياة العامة الفلسطينية، بل تُظهر أيضًا المشاركة الفاعلة للأطفال، بل والاحتفاء بهم، في هذه البيئات. يُرسل الطفل المبتسم، وهو يحمل سلاحًا إلى جانب مقاتل مسلح، رسالةً مُقلقةً للغاية حول التلقين الفكري وانهيار الحدود بين الطفولة والفكر الإرهابي الإسلامي المُتشدد. يكشف النبرة المُبهجة للفيديو، مُقارنةً بوجود أسلحة فتاكة، عن الطريقة المُضللة التي يُصوَّر بها العنف أو يُصوَّر على أنه غير مُؤذٍ من خلال عدسة الدعاية. هل عرضت بي بي سي أيًا من هذا؟ كلا، لم يفعلوا.
تدريب الأطفال الآخرين على التطرف
في فيديو ثالث، صُوّر زكريا وهو يلوّح بمسدس من داخل سيارة، محاطًا بأطفال آخرين. كُتب على الفيديو: “القائد. زيكو 😂💔” – “القائد. زيكو”.
يهتف:
“أسمع شعار: ‘ضع السيف على السيف. نحن رجال محمد ضيف'”.
يسأله شخص بالغ: “هل درّبت هؤلاء؟”
يجيب زكريا: “نعم”.
ثم يقول أحدهم: “معاوية”.
يُصحّحه زكريا: “اسمها ‘معاوية غالية'” – في إشارة إلى أغاني الحرب الفلسطينية.
هذه ليست مجرد لعبة أطفال، بل هي حملة ممنهجة لتلقين وتمجيد الجهاد، تُنفذ على مرأى ومسمع من المجتمع الفلسطيني. إن تجاهل بي بي سي لكل هذا في فيلم عن طفولة الفلسطينيين في غزة، بينما تُقدم زكريا كصبي بريء وشجاع يلعب دور المسعف، يُعدّ فشلاً صحفياً من الطراز الأول. والأسوأ من ذلك، أنه عندما يتحدث الناس في الفيلم عن “اليهود”، تُخطئ ترجمة بي بي سي في ترجمة الكلمة إلى “الإسرائيليين”، مُخفيةً الهدف الحقيقي لهذه الأيديولوجية العنيفة التي تُنقل بحماس شديد إلى الجيل التالي.
“مخفي في وضح النهار“ أو “مخبأ في العلن“
ملحوظة من المترجم لا يتضمنها النص النص: يستخدم هذا التعبير للإشارة عن شيء واضح ومتواجد أمام الجميع، لكنه غير ملحوظ أو غير مُدرك، كأنه مخفي رغم كونه في مكان ظاهر.
هذه ليست حوادث معزولة. هناك صور لزكريا، أو زيكو، تُظهره وهو يُغرس فيه فكرٌ مُمجّد للعنف، كما هو مُعتاد لدى العديد من الأطفال الفلسطينيين في غزة.
على الرغم من أن قدرًا كبيرًا من هذه المواد متاح للعامة، وقد وثّقه محققون في المصادر المفتوحة، مثل حساب “غزة وود” (وهو اسم يشير إلى الجودة السينمائية المُدبرة لكثير من المحتوى القادم من قطاع غزة)، إلا أن بي بي سي لم تُحاول إظهار هذا الجانب من حياة زكريا أو غيره من الأطفال. هذا الفشل ليس مجرد فرصة ضائعة، بل هو إغفال تحريري خطير. يُضلّل الفيلم جمهوره بإضفاء طابع رومانسي على لعب الأطفال لأدوار إنسانية، بينما يُغفل تمامًا تلقينهم أدوارًا عنيفة ومتطرفة.
لا يمكننا لوم زكريا. إنه طفل. لكن يجب أن نلوم المجتمع الذي يُعلّمه هو وغيره من الأطفال، بلا مبالاة، الكراهية والقتل وتمجيد الإرهاب. إنه اعتداء على الأطفال، يهدف إلى تنشئة المزيد من القتلة ذوي العقول المريضة لتنفيذ المزيد من الهجمات الإرهابية والتفجيرات الانتحارية، والمزيد من أمثال 7 أكتوبر.
لن أنسى أبدًا صورة طفل في الحشد المتجمع حول السيارة التي تحمل جثة شاني لوك الميتة والمُنتهكة بينما قادها قتلتها الفلسطينيون إلى غزة لحضور موكب احتفالي في 7 أكتوبر 2024. اندفع الحشد المتجمع بفرح لرؤية الجسد المكسور والعاري للشابة المسكينة التي حاولت فقط الاحتفال بالموسيقى والحب في مهرجان نوفا. وبينما كان الفلسطينيون البالغون يحتفلون حول كأسهم، انحنى طفل يرتدي قميصًا أحمر ليبصق على بقاياها المكسورة. لقد حطمني منظر ذلك الطفل، وهو حريص جدًا على تدنيس جثة امرأة ميتة. ومع ذلك كنت أعرف أن هذا الطفل لم يختر هذا الطريق لنفسه: كان هذا نتيجة لتبني الأفكار الإسلامية المتطرفة عن الحرب والفلسطينية العنيفة بين أصغر أفراد مجتمعهم.
أتيحت لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) فرصة شرح كل هذا. كان بإمكانها أن تُظهر كيف يُسيء المجتمع الفلسطيني في غزة معاملة أطفاله بانتظام، ويُعلّمهم العنف والقتل. كان بإمكانها أن تُظهر لهم جحيم الحياة الذي يعيشونه، تحت إشراف بالغين يُعرّفون هويتهم بالجهاد، وقتل اليهود، والتطرف الإسلامي. لكن كعادتها، اختارت إخفاء كل ذلك، وسرد قصة مختلفة – قصة أبسط وأكثر ترتيبًا، ثنائية الأخيار والأشرار. قصة خيالية.
لقد اختارت أقوى هيئة إذاعية في العالم تضليل جمهورها بشأن حقيقة الطفولة الفلسطينية في ظل حكم حماس. ولهذا الخيار عواقب وخيمة.
للاطلاع على النص الأصلي باللغة الإنجليزية: أنقر هنا.
بقلم: جوناثان ساشردوتي (كاتب صحفي بريطاني)