الحنين لليهود حينما يتصادم مع رفض التطبيع مع إسرائيل: معضلة تؤدي إلى تشويه الحقائق التاريخية

المصدر: WorldJewishCongress, CC BY-SA 3.0 , عبر ويكيميديا كومنز

إلى أي مدى يذهب بعض الكتاب العرب الراغبين، من جهة، إبداء التعاطف مع اليهود الذين كانوا يقطنون الدول العربية لكنهم يتجنبون قدر الإمكان، من جهة أخرى، أي اتهام لهم بدعم التطبيع مع إسرائيل؟ هل يحق لهؤلاء الكتاب، ولو من باب النوايا الحسنة، تشويه الحقائق لتتماشى مع مواقفهم؟ يمثل الصحفي أمجد السعيد المقيم في لندن والعامل لصالح “إندبندنت عربية” نموذجًا جديرًا بالاهتمام من هذه الزاوية.

لا شك أن السعيد (الذي يمكن مشاهدة تقاريره الأخيرة على موقع “إندبندنت عربية” عبر هذا الرابط) يملك رصيدًا لا بأس به من المعلومات حول الملف الإسرائيلي الفلسطيني الذي يمثل محورًا رئيسيًا في كتاباته. لكن رغم ذلك تشير عناوين بعض تقاريره إلى رفضه لفكرة التطبيع مع إسرائيل، حيث جاء مثلاً عنوان تقريره المنشور يوم 12 أبريل/نيسان 2020 حول صفقات إسرائيلية تركية لمواجهة فيروس “كورونا” كالآتي: تطبيعطبي بين تركيا وإسرائيلمن الكمامة إلى برمجيات ترصّد كورونا“.

على أي حال، وبالعودة إلى ما يعنينا هنا، فقد نشر السعيد تقريرًا يوم 29 أبريل/نيسان 2020 بعنوان: مسلسل “أم هارون” بين المعالجة الفنية الجريئة واتهامات التطبيع، تناول فيه ردود الأفعال المتباينة الصادرة عن جهات مختلفة حول المسلسل الرمضاني الذي تبثه قناة MBC السعودية والتي تدور أحداثه حول شخصية سيدة يهودية بحرينية عاشت في أربعينيات القرن الماضي (مع العلم أن قصة المسلسل ليست خيالية بل مستوحاة من تاريخ سيدة يهودية كان اسمها الحقيقي أم جان).

يجب القول، إنصافًا للحقيقة، إن أمجد السعيد بدأ تقريره متخذًا نبرة إيجابية تجاه المسلسل المذكور الذي بات مدار خلافات شديدة بين جهات إعلامية وسياسية مختلفة في دول المنطقة، حيث رأى السعيد أنه لا داعي لمقاطعة المسلسل تحت طائلة التطبيع كونه غير مرتبط أصلاً بإسرائيل، أو بكلام السعيد نفسه:

وأتت اتهامات الترويج لـ”العدو الإسرائيلي”، في حين أن المسلسل لا يحتوي ولا يضمّ إسرائيليين ولم يكتبه أو يخرجه إسرائيلي، كما أن أحداث القصة لم تكن عن إسرائيل بتاتاً، وإنما عن اليهود العرب في الدول العربية الذين عاشوا وشاركوا في الحياة الفنية والثقافية والاجتماعية في بلادهم..

غير أن ما تبع هذا الكلام يجعل أي عاقل في حالة من الذهول والدهشة التامة، إذ كتب السعيد ما يلي عن يهود البلدان العربية:

 ولا يزال الكثير منهم يعيش في المغرب والجزائر وليبيا والسودان ومصر وسوريا ولبنان والعراق والبحرين، وحتى إيران وتركيا، وهم يعيشون حياة عادية في تلك الدول ويمارسون طقوسهم بحرية وينخرطون في شتى مناحي الحياة.

لا يمكننا الجزم بما إذا كانت هذه الجملة تنمّ عن الجهل التام (الحالة الأكثر تقبلاً ولو كانت تدل على الكسل الفكري وعدم لجوء الكاتب إلى التحقق من أبسط الحقائق المتوفرة في رحاب الشبكة العنكبوتية) أو عن السعي المتعمد لتحريف الحقائق التاريخية وتقديم صورة مشرقة حول تاريخ اليهود في الشرق الأوسط. غير أنه لا بد من التوقف عند الخطأ الفادح للكاتب وتصحيحه.

إذ إن ما قاله السعيد عن “الحياة العادية” التي يعيشها اليهود القاطنون في مختلف الدول العربية والإسلامية التي أدرجها على قائمته (عدا عن المغرب وتركيا وإيران التي ما زال هناك الآلاف من اليهود يقيمون في كل منها) بعيد كل البعد عن الواقع الحقيقي الدالّ على خلوّ هذه الدول التام أو شبه التام من أي حضور يهودي. وإذا أمعنّا قليلاً النظر في التفاصيل فسنجدها كالآتي:

مصر: أكبر الدول العربية تعدادًا للسكان التي كانت تحتضن في الماضي طائفة يهودية كبيرة، خاصة في القاهرة والإسكندرية، لم يبق فيها الآن إلا أفراد قلائل من اليهود لا يتجاوز عددهم وفق حصيلة جديدة 17 شخصًا.

سوريا: ما كتبه السعيد عن اليهود القاطنين في سوريا، ناهيك عن أي مواطن سوري بعد عقد من السنوات التي مرت على الحرب الأهلية الأكثر ضراوة وقسوة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، ليس إلا مدعاة للسخرية! إذ كان اليهود السوريون يتعرضون منذ عقود للاضطهاد وتقييد لحرياتهم من قبل النظام الأسدي ما جعل غالبيتهم العظمى تهرب من الأراضي السورية أو تهجرها (كانت موجة الهجرة الكبرى الأخيرة عام 1994). على كل، وفق فريق من تلفاز BBC العربية تم إرساله إلى دمشق عام 2019، فلم يبق في الأراضي السورية أكثر من 15 يهوديًا (جميعهم في دمشق).

البحرين: كان الحاخام الأميركي مارك شنيير، الذي دعاه العاهل البحريني حمد آل خليفة قبل أقل من عام لزيارة المنامة لحضور مؤتمر دولي فيها، قد ذكر أن عدد أفراد الجالية اليهودية البحرينية يبلغ 37 شخصًا، مع العلم أن بينهم سيدتين تحتلان مناصب مرموقة وهما السفيرة البحرينية السابقة في واشنطن هدى عزرا نونو والعضوة الحالية في مجلس الشورى البحريني نانسي خضوري. ويجب بالفعل الإشادة بسياسة التسامح، ولو على الصعيد الرسمي، التي تنتهجها البحرين حاليًا إزاء الطائفة اليهودية الصغيرة في أراضيها بغض النظر عن دوافعها السياسية (تحسين صورة البحرين في علاقاتها مع الولايات المتحدة).

الجزائر: ليس من المعروف ما إذا كان لا يزال هناك حاليًا أي مواطن جزائري على قيد الحياة يجاهر بيهوديته. إذ كان المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا قد أشار عام 2013 إلى وجود قلة قليلة من اليهود في الجزائر العاصمة قائلاً إن جميعهم لا يبرزون علنًا هويتهم الدينية. وكانت السيدة اليهودية الأخيرة التي جاهرت بديانتها، إستير أزولاي، قد فارقت الحياة عام 2011.

العراق: الحالة العراقية جد مثيرة للاهتمام، خاصة في ظل ما يراود بعض أوساط المثقفين في بلاد الرافدين من مشاعر الندم بعد اختفاء المكوّن اليهودي الضاربة جذوره في تاريخها منذ القِدَم. أما الواقع فهو مؤلم، حيث أشار السيد عماد ليفي الذي غادر بغداد عام 2011، في حديث إلى موقع ynet باللغة العبرية عام 2018، إلى أنه ما زال على تواصل مع جميع أفراد الطائفة اليهودية البغدادية وعددهم 5 ليس إلا.

لبنان: لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد يهود بلد الأرز (الذي كان يبلغ الآلاف وكان مركزهم في حي وادي أبو جميل ببيروت)، لكن يبدو أن هذا العدد يمكن حصره ببضع عشرات فقط، مع العلم أن هناك على الأرجح المئات من المواطنين اللبنانيين الآخرين المنحدرين من أصول يهودية لكنهم اعتنقوا الإسلام أو المسيحية خوفًا من الاعتداء عليهم.

أما ليبيا والسودان فلم يبق فيهما أي أثر لليهود، حيث سُجل رسميًا آخر حضور يهودي في ليبيا عام 2002 (حيث غادرت سيدة يهودية البلاد فيما توفيت أخرى)، بيينما لم توثّق المستندات الرسمية أي وجود يهودي في الأراضي السودانية منذ أواسط عقد السبعينيات.

بناءً على كل هذه التفاصيل، فلا يسع أي متابع نزيه للوقائع التاريخية إلا القول إن أي حنين وشوق للماضي (كما يعبر عنه مسلسل “أم هارون”) حيث كان اليهود جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي العربي في المنطقة، لا يمكنه أن يتستر على الواقع المؤلم المتمثل بهجرة اليهود أو تهجيرهم القسري من المنطقة العربية بصورة شبه كاملة. كما لا غرابة في تجنب كاتب مثل أمجد السعيد الحديث عن الوجهة التي اختارها جزء كبير من يهود البلدان العربية لهجرتهم، أي أراضي دولة إسرائيل. يا ترى، كيف يمكن تبرير التناقض المنطقي القائم بين الحنين إلى هؤلاء اليهود ورفض أي تطبيع للعلاقات مع أبنائهم وأحفادهم المقيمين في إسرائيل؟

صورة لمجموعة من يهود اليمن لدى هجرتهم إلى إسرائيل. المصدر: زولطان كلوغر, Public domain, عبر ويكيميديا كومنز

أنظر إلى التقرير المنشور بالإنجليزية على موقع “CAMERA UK” التابع لمؤسسة “كاميرا”.

Join the Conversation

1 Comment

  1. says: ange

    من الجيد التفكير في الماضي ولكن بعض الاتفاقيات لا تجلب شيئًا سوى حقيقة الحديث عنها

Leave a comment
اترك رداً على angeCancel comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *