قام موقع “بي بي سي عربي” يوم 15 مايو/أيار الماضي، في مسعى لإحياء الذكرى الـ72 لما يُعرف بـ”النكبة الفلسطينية”، بنشر تقرير تضمن جدولاً زمنيًا مرفقًا ببعض الصور لسردية الأحداث التي وقعت في فلسطين أثناء فترة الانتداب البريطاني لها (تحديدًا ما بين توقيع اتفاق “سايكس – بيكو” البريطاني الفرنسي الشهير عام 2016 وحرب 1948). غير أن هذا التقرير يشمل للأسف محتويات خاطئة ترقى في بعض الأحيان إلى مستوى التضليل.
وقام فريق “كاميرا عربية” بمراسلة الموقع بالأمر في الفترة ما بين 17 و 21 مايو/أيار الماضي، مما حدا بالموقع إلى إجراء بعض التعديلات الطفيفة صيغة النص الأصلي ولكن من دون التطرق بجدية إلى الملاحظات التي أبداها فريقنا. كما أن شكوى تقدم بها فريقنا إلى “بي بي سي” يوم 3 يونيو/حزيران لم تلقَ أي تجاوب بما يخالف إطار التعامل مع الشكاوى الذي تحدده هيئة الإذاعة البريطانية نفسها.
بالتالي نعرض على القراء تفاصيل الأخطاء الواردة في سياق التقرير المذكور والمراسلات المتبادلة مع موقع “بي بي سي” بشأنها وملاحظاتنا النهائية عليها:
- جاء في مستهل التقرير ما يلي: “يستذكر الفلسطينيون في الخامس عشر من مايو أيار من كل عام “نكبتهم” التي يحتفل بها الإسرائيليون عيدا لقيام دولتهم عام 1948″.
وكان مضمون رسالة الشكوى الأولى التي بعثها فريقنا إلى “بي بي سي” كالآتي: بما أن مواعيد الأعياد والمناسبات الرسمية في دولة إسرائيل تُحدَّد طبقًا للتقويم العبري (المختلف عن التقويم الغربي)، فإن عيد الاستقلال لدولة إسرائيل لا يتزامن إلا نادرًا مع يوم 15 مايو/أيار الذي يوافق ذكرى النكبة. وفي السنة الماضية مثلاً قد تم الاحتفال بعيد الاستقلال الإسرائيلي يوم 29 أبريل/نيسان 2020.
وكان رد “بي بي سي” يشير إلى أنه يستخدم التقويم الغربي الذي ينص على أن النكبة الفلسطينية تتزامن مع يوم الإعلان عن دولة إسرائيل! غير أن هذا الرد لا يمكن اعتباره إلا سطحيًا ولا يعكس مفهوم “النكبة” من حيث تسلسل وقائع حرب 48. على أي حال، وانسجامًا مع الدقة التاريخية المتناهية، فإن إعلان دافيد بن غوريون عن قيام دولة إسرائيل جاء يوم 14 (وليس 15) من مايو/أيار 1948…
2. جاء في تقرير “بي بي سي عربي” ما يلي: “خلال الحرب العالمية الأولى طرد البريطانيون العثمانيين من فلسطين بمشاركة العرب الذين وعدوا حينها بالحكم الذاتي.” ويرى فريقنا، تمشيًا مع رسالة الشكوى الموجهة إلى “بي بي سي” بهذا الخصوص، أن هذه الصياغة مضللة، على اعتبار أن مناطق الحكم الذاتي العربي التي كانت مدار بحث بين بريطانيا العظمى وقيادات “الثورة العربية الكبرى” على الدولة العثمانية، كانت تشمل أراضي كل من سوريا ولبنان والعراق والمملكة العربية السعودية بحدودها الحالية، لكنها لم تشِر جهارةً إلى فلسطين.
غير أن “بي بي سي” أصرت، في معرض إجابتها على الشكوى بهذا الشأن، على صحة تقريرها مدعيةً بأنه يستند إلى ما أوردته الموسوعة البريطانية حول سلسلة المراسلات المتبادلة عاميْ 1915-1916 بين المعتمد البريطاني في القاهرة السير هنري مكماهون والشريف حسين بن علي من مكة. وادعت هيئة الإذاعة البريطانية بأن هذه المراسلات كانت عمليًا صفقة لمقايضة الدعم العربي لبريطانيا في حربها على العثمانيين بإنشاء دولة عربية مستقلة.
لا نريد هنا الخوض في جدل عقيم حول الحقائق التاريخية، لكن لا بد من التوضيح أن العرب الفلسطينيين، خلافًا لصياغة التقرير المضللة، لم يتلقوا أي وعد من بريطانيا بإنشاء حكم ذاتي منفرد لهم، بل من المؤكد أن مجرد فكرة إنشاء كيان سياسي منفصل للعرب القاطنين في فلسطين آنذاك لم تخطر قط على بال صانعي القرارات البريطانيين، مع العلم أن الكلمة “فلسطين” لم يأتِ ذكرها على الإطلاق خلال مراسلات مكماهون – الشريف حسين.
3. تضمن تقرير “بي بي سي” الجملة الآتية: “ووضع مؤتمر “سان ريمو”، للمنتصرين في الحرب العالمية الأولى، فلسطين تحت الانتداب البريطاني رسمياً عام 1920. لكن قبل ذلك دعمت بريطانيا تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين من خلال “وعد بلفور”. هنا أيضًا اعتبر فريقنا صياغة التقرير مضللة كونها تقلب التسلسل السليم لأحداث التاريخ رأسًا على عقب، ذلك لأن وعد بلفور (1917) قد تم دمجه عمليًا في قرارات مؤتمر سان ريمو التي فوضت بريطانيا بتطبيقه.
غير أن “بي بي سي” تشبثت بموقفها مؤكدةً أن صياغتها في التقرير المذكور كانت دقيقة وأنها اكتفت بإدراج حقيقتين تاريخيتيْن مترابطتيْن، بمعنى وعد بلفور ومؤتمر سان ريمو. لكن فريقنا لا يسعه إلا إنكار هذا الادعاء، على اعتبار أن صياغة تقرير “بي بي سي” جاءت (عمدًا بنظرنا) موحيةً بأن هناك تناقضًا ما بين وعد بلفور ومؤتمر سان ريمو، فيما تؤكد السجلات التاريخية أن المؤتمر أضفى بالفعل الشرعية الدولية على وعد بلفور (الذي لم يكن ملزمًا قبل ذلك بالنسبة لأي دولة باستثناء بريطانيا العظمى وحدها).
4. جاء في التقرير ما يلي: “رفض الفلسطينيون فكرة منح وطن لليهود على أرضهم ونشبت أعمال شغب في القدس والخليل عام 1929 أسفرت عن مقتل 200 يهودي تقريبا و 116 فلسطينيا في القدس أثناء محاولة القوات البريطانية إخمادها.”
هنا تخص ملاحظتنا أبسط الحقائق على الأرض، حيث لم تقتصر رقعة أعمال الشغب على القدس والخليل بل شملت أيضًا بعض مناطق الجليل ويافا وغزة. كما أن حصيلة القتلى اليهود كانت دون الإحصاء المذكور في التقرير وبلغت 133 شخصًا.
5. تناولت الشكوى المقدمة من فريق “كاميرا” إلى “بي بي سي” قضية عامة، ألا وهي استخدام التقرير مرارًا وتكرارًا عبارة “فلسطينيين” وكأنها تنطبق على السكان العرب وحدهم، فيما كان الوضع القانوني لجميع سكان فلسطين، يهودًا وعربًا، إبان الانتداب البريطاني قائمًا على قدم المساواة، بمعنى أن جميعهم كانوا يُعتبرون “فلسطينيين”. كما أن العرب المقيمين في فلسطين كانوا يفضلون إطلاق صفة “عربي” وليس “فلسطيني” حتى على أعلى هيئة سياسية لهم (اللجنة العربية العليا).
وكان رد “بي بي سي” على هذه القضية متمثلاً بالادعاء بأن المهاجرين اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين قبل 1948 لم يكونوا فلسطينيين، شأنهم شأن سكان القرى التعاونية (الكيبوتسات) اليهودية. كما أن اليهود الذين كانوا يقيمون آنذاك في فلسطين كانوا يعرّفون أنفسهم على أنهم “يهود” وليسوا “فلسطينيين”. لكن هنا أيضًا يستحيل على فريقنا الإقرار بمنطق الرد لأنه يتعامل مع “الفلسطينيين” من منطلق إثني بغض النظر عن الحقيقة المشار إليها التي كانت تضع جميع سكان فلسطين الانتداب البريطاني، وفقًا للوثائق الرسمية التي كانوا يحملونها، في خانة “الفلسطينيين”.
6. أخيرًا، كان بودّ فريقنا تصحيح خطأ واضح ورد في الكتابة المرفقة بالرسم الكاريكاتوري الدعائي السوفياتي الوارد في أسفل التقرير (والذي يأتي أعلى تقريرنا)، حيث ذُكر أن هذا الرسم يصوّر “فلسطينيًا ويهوديًا”. أما الحقيقة، التي تتجلى لكل قارئ ملمّ بالحروف الروسية، فهي أن الرسم الكاريكاتوري يصوّر “مصريًا وإسرائيليًا”.
أقرّت “بي بي سي”، في سياق ردها على هذه النقطة، بأن الرسم الكاريكاتوري يعود إلى 1952، أي إلى فترة ما بعد تخلي بريطانيا عن انتدابها في فلسطين، لكنها ادّعت بأنه يتلاءم مع موضوع التقرير لأنه يصور بائع أسلحة بريطانيًا يوزّع السلاح على شخصيْن أحدهما يهودي والآخر عربي مسلم. وأضافت “بي بي سي” أنها قررت على أي حال تغيير الكتابة المرفقة بالرسم الكاريكاتوري لتصبح “فلسطينيًا يهوديًا وعربيًا مسلمًا”. لكن من الواضح، كما أسلفنا، أن هذه الكتابة خاطئة أصلاً وأن الرسم الكاريكاتوري استهدف انتقاد بريطانيا لتدخلها في قضايا الشرق الأوسط في فترة وضعه (1952) ولا علاقة له على الإطلاق بالصراع الداخلي السابق بين اليهود والعرب في فلسطين..
تنويه: في أعقاب مراسلة أخرى جرت بين فريق “كاميرا عربية” ودائرة الشكاوى التابعة لـ”بي بي سي”، تم حذف الرسم الكاريكاتوري المذكور من التقرير.
خلاصة القول: من المؤسف أن تنسى، أو تتناسى، مؤسسة إعلامية عريقة من قبيل “بي بي سي” المقولة الخالدة “الاعتراف بالخطأ فضيلة” وتتمسك ببعض الأخطاء الواضحة المتعلقة بالحقائق الأساسية لقضية محورية كالصراع اليهودي العربي على فلسطين إبان فترة الانتداب البريطاني.
أنظر التقرير المنشور أصلاً بالإنجلزية على موقع “CAMERA UK” التابع لمؤسسة “كاميرا”