“فرانس 24”: 4 دقائق، 9 مغالطات

لم يعد انحياز “فرانس 24” باللغة العربية ضد إسرائيل يفاجئ الكثيرين، حيث اعتاد كل من يشاهد القناة على التقارير المتحاملة على الدولة العبرية والمتبنية بشكل دائم ومطلق الرواية الفلسطينية. ولكن الاعتياد على هذا السلوك المخالف لأدبيات مهنة الصحافة ولميثاق شرف القناة لا يجعله أمراً طبيعياً ومقبولاً. كما أنه يتوجب على إدارة القناة باللغة الفرنسية أن تعي بأن الانحياز الأعمى في قضية دولية شائكة كالصراع الإسرائيلي الفلسطيني حتماً يؤثر سلباً على صورة فرنسا أمام العالم كدولة حرة يحتذى بها وبإعلامها وكوسيط نزيه في إنهاء الصراعات. وأخيراً فإن الانحياز عادةً ما يأخذ صاحبه إلى الاستناد على تحليلات خاطئة وعلى حجج مُلفقة، حيث يصبح عمل المحرر دعائياً وتبريرياً بدلاً من أن يكون إعلامياً هادفاً ومتجرداً من أي مصلحة.

“الخبير في الشأن الإسرائيلي” لدي قناة “فرانس 24” باللغة العربية خالد الغرابلي في إحدى مداخلاته.

ففي حوار أجرته القناة الفرنسية الناطقة بالعربية في الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني 2023 مع أحد العاملين فيها، محرر الشؤون الدولية في قناة “فرانس 24” باللغة العربية و”المختص في الشأن الإسرائيلي” خالد الغرابلي لتحليل حالة الفلتان الأمني الذي شهدته إسرائيل ومناطق الحكم الذاتي الفلسطيني في الأسابيع الفائتة، صدرت عنه مجموعة هائلة من المغالطات الفاضحة. ففي أربع دقائق فقط، نجح الصحفي المصري في ارتكاب تسع مغالطات سوف نعرضها بالتفصيل:

أولاً، في السؤال ذاته وصفت المقدمة، السيدة حسناء مليح، دخول إسرائيل إلى جنين بالهجوم (“هجوم جنين”)، في حين أن إسرائيل دخلت مدينة الحكم الذاتي وفقاً للاتفاقيات المبرمة بينها وبين السلطة الفلسطينية (اتفاقيات أوسلو)؛ وذلك للتصدي لمخاطر أمنية في قطاع كانت قد فقدته السلطة وانسحبت منه أجهزتها الأمنية بعد أن سيطرت عليه مجموعات جهادية.

ثانياً، “يتوقع” خالد الغرابلي بأن الأمور سوف تتصاعد بسبب وجود “بيئة متوافرة”، بحسب تعبيره، ألا وهو وجود حكومة يمينية في إسرائيل تشارك فيها قائمة متشددة (قائمة الصهيونية الدينية). ولكن الحقيقة هي أن حالة الفلتان الأمني التي تشهده مناطق السلطة والنشاط الأمني الإسرائيلي في هذه المناطق يعودان إلى عهد الحكومة السابقة، أي “حكومة التغيير” بقيادة لابيد وبينيت. كما أن إسرائيل كانت قد تعرضت لعدد كبير من الهجمات الإرهابية قبل عودة اليمين إلى السلطة عقب انتخابات الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2022. لا علاقة إذن بين التوتر القائم اليوم واللون السياسي للحكومة الإسرائيلية.

ثالثاً، يدعي الصحفي في القناة الفرنسية أن إسرائيل ملزمة بالانسحاب من الأراضي المحتلة بالعام 1967 “وفقاً للقانون الدولي”، مشيراً إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 242 ليونيو/حزيران 1967؛ في حين أن القرار يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من أراضٍ (“from territories”)، وليس من جميع الأراضي، إلى “حدود آمنة ومعترف بها” من قبل جيران إسرائيل. كما أن القرار كان قد قوبل بالرفض من قبل جميع الدول العربية آنذاك في مؤتمر الخرطوم الشهير، ولا تزال أغلب البلدان العربية لا تعترف بإسرائيل. كما أن تثبيت الحدود الشرقية لإسرائيل بالشكل الذي يضمن أمنها (وفقاً لنص القرار 242) يتطلب نجاح العملية السياسية بين إسرائيل والسلطة، الشيء الذي لم يتوصل إليه الطرفان حتى اليوم.

لا يوجد في القانون الدولي ما يلزم إسرائيل بالانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967. وهذا لا يعني أن منطقة يهودا والسامرة ليست محتلة، حيث لم تقم إسرائيل بضمها وبالتالي فيسري عليها القانون الدولي للاحتلال (باستثناء شرق بلدية أورشليم القدس الذي ضمته إسرائيل عام 1967). ولكن كون الأراضي محتلة لا يتنافى مع كونها متنازعٌ عليها. والأهم من ذلك كله هو أن القانون الدولي لا يلزم إسرائيل بالانسحاب من جميع المناطق وبشكل أحادي الجانب، كما ادعى المتحدث. والجدير بالذكر أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة استشارية وأن قرارات مجلس الأمن وحدها هي الملزمة.

رابعاً، يصف خالد الغرابلي حكومة نتنياهو بأنها “حكومة يمينية متطرفة”، إلا أنها تحتوي على أربع كتل نيابية من ضمنها كتلة واحدة من أقصى اليمين، ألا وهي قائمة الصهيونية الدينية. أما الليكود، وهو الحزب الأكبر وقاطرة الائتلاف، فهو يمثل اليمين التقليدي داخل إسرائيل؛ وهو يحكم البلاد بشكل شبه متواصل منذ فبراير/شباط 2009. وأخيراً، الكتلتان المتبقيتان تتمثلان في القائمتين الحريديتين “شاس” و”يهادوت هاتوراه”، وهي تضم ثلاثة أحزاب (“شاس”، “أغودات يسرائيل” و”ديغِل هاتوراه”) غير قومية وتعرف نفسها على أنها غير صهيونية. الأصح إذن أن يقال بأن الحكومة يمينية وتحتوي على قائمة من أقصى اليمين أو من اليمين المتطرف.

خامساً، يتهم الصحفي إسرائيل بالرغبة في “تهويد” القدس الشرقية والضفة الغربية وأن ذلك، حسب تعبيره، لا يتم بدون “التخلص من الطرف الفلسطيني”. ولكن الحقيقة هي أن إسرائيل لم تقم بأي إجراء يؤدي إلى طرد المواطنين العرب، لا من أورشليم القدس ولا من يهودا والسامرة. فيما يتعقل بأورشليم القدس، وهي مدينة مختلطة (وهي كذلك المدينة الأكبر في إسرائيل من حيث المساحة وعدد السكان)، فكان المكون العربي فيها يمثل 25% من التعداد الإجمالي للسكان عند توحيدها عام 1967. واليوم المكون العربي في المدينة يتراوح بين %37 إلى 38% بحسب الإحصائيات الرسمية (المكتب المركزي للإحصائيات في أورشليم القدس، يناير/كانون الثاني 2023). فإن كانت إسرائيل تمارس تطهيراً عرقياً في المدينة، فإنه بدون شك، ووفقاً للمعطيات الموضوعية، أفشل تطهير عرقي في التاريخ! فيما يتعلق بيهودا والسامرة، أو الضفة الغربية، فقد امتنعت أكثر الحكومات يمينيةً في إسرائيل عن القيام بضم أجزاء منها بشكل أحادي الجانب وبالطبع فإنها لم تطرد أحداً منها.

سادساً، يستند السيد الغرابلي إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة ليبرر ما يصفه بمقاومة الاحتلال، حيث يقول: “القانون الدولي يسمح بالدفاع عن النفس للأفراد والجماعات.” ثم يضيف: شريطة “ألا تتعرض [المقاومة] للمدنيين”. إلا أن “المقاومة الفلسطينية” التي يبررها الغرابلي لا تتعرض إلا للمدنيين. في الشهر الفائت فقط، تم قتل 14 إسرائيلياً في عمليات إرهابية متفرقة جميعها تقريباً استهدفت مدنيين إسرائيليين. كما أن الجماعات الجهادية التي تحاربها إسرائيل في مناطق الحكم الذاتي تعمل على قتل المدنيين الإسرائيليين اليهود. هناك إذن تناقض بَيِّن في موقف الصحفي، الذي من ناحية يبرر نشاط الجهاديين كمقاومين للاحتلال، ومن ناحية أخرى يعترف بأن القانون الدولي لا يجيز استهداف المدنيين.

سابعاً، يصف خالد الغرابلي الجهاديين الذين يواجههم الجيش الإسرائيلي في مناطق الحكم الذاتي ب”الطرف الفلسطيني”، متناسياً أن الطرف الفلسطيني الحقيقي، المعترف به دولياً، هو السلطة الفلسطينية، وأن الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تحاربها إسرائيل (بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي) انقضت على الشرعية الفلسطينية واستولت بقوة السلاح على مناطق خاضعة للسلطة الفلسطينية.

ثامناً، يقول السيد الغرابلي، في ما يشبه الانتقاد، أن إسرائيل تسمي المسجد الأقصى بجبل الهيكل والضفة الغربية بيهودا والسامرة. ينبغي هنا التوضيح بأن جبل الهيكل هو الاسم التاريخي لساحة المسجد الأقصى (وليس المسجد نفسه)، المذكور في جميع الأدبيات القديمة، بما في ذلك الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية على حدٍ سواء. كما أن اسخدام اليهود للاسم التاريخي لأقدس مكان في دينهم لا يعني أن هناك مخطط لهدم المسجد الأقصى أو للتعدي على ما يُعد من مقدسات المسلمين. فيما يتعلق بمناطق الحكم الذاتي كذلك، يهودا والسامرة هو المسمى التاريخي، والمستخدم حتى باللغات الأوروبية في كتب التاريخ، في حين أن “الضفة الغربية” هو مسمى سياسي حديث لم يكن يتداول قبل احتلال الأردن لهذه المناطق عام 1949 وضمها رسمياً عام 1950 (لم تعترف بهذه الخطوة أحادية الجانب سوى أربع دول فقط وهي العراق، باكستان، المملكة المتحدة والولايات المتحدة. كما أن الأخيرتان قد تراجعتا فيما بعد واستثنيتا شرق أورشليم القدس من الاعتراف.). كما أن استخدام الأسماء التاريخية لتلك المناطق من قبل إسرائيل (أو بالأحرى، في اللغة العبرية) لا ينتقص من حقوق مواطنيها العرب. فما أكثر البلدان والمدن وبل حتى الممرات المائية التي لها أكثر من اسم مع اختلاف اللغات، أو حتى في اللغة الواحدة، بما في ذلك في منطقة الشرق الأوسط (كوباني/عين العرب، القاهرة/الفسطاط، إسطنبول/القسطنطينية، الخليج العربي/الخليج الفارسي).

تاسعاً وأخيراً، يتطرق السيد الغرابلي إلى ما يعرف إعلامياً بقانون القومية، وهو قانون أساس (أي ذو طابع دستوري) سنه الكنيست عام 2018، بأنه مجحف في حق العرب حيث يكرس حق تقرير المصير لليهود دون غيرهم. في الواقع، لم يأتي القانون بجديد فيما يتعلق بهذه النقطة تحديداً، حيث أنه أكد على نص كان قد ورد في وثيقة استقلال الدولة (وهي ذات طابع دستوري كذلك، أي أنها لا تقل أهمية على المستوى القانوني من قوانين الأساس)، يعرف إسرائيل بأنها الوطن القومي للشعب اليهودي (كقومية وليس كديانة). تماماً كما أن دولاً عديدة في العالم العربي تعرف نفسها في دساتيرها على أنها دول عربية، رغم احتواءها على مكونات غير عربية. الحديث هنا هو عن الهوية القومية للدولة وليس عن حقوق المواطنين المتساوية بطبيعة الحال بحسب القانون الإسرائيلي.

من المؤسف أن تستمر قناة “فرانس 24” باللغة العربية، بشكل ممنهج وعلى مدى سنوات، في تبني موقف منحاز ضد إسرائيل في جميع برامجها، بدون حتى أن تتيح للطرف الآخر أن يبرز وجهة النظر المخالفة. وللتذكير فإن “فرانس 24” هي قناة حكومية فرنسية، أي أنها ممولة من قبل دافع الضرائب الفرنسي، وليست قناة خاصة تابعة لجهة دون غيرها. لا شك في أن هكذا توجه يفقد القناة مصداقيتها أمام قطاع واسع من المجتمع الفرنسي، كما أنه قد يؤثر سلباً على سمعة فرنسا كدولة.

بقلمد. مئير مصري، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العبرية في أورشليم القدس ومستشار بمؤسسة “كاميرا”.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *