تحقيق خاص: كيف تعتمد وسائل الإعلام الغربية الناطقة بالعربية المصطلحات التي توحي بإنكار حق إسرائيل في الوجود

المصور: Nizzan Cohen, CC BY-SA 4.0 , عبر ويكيميديا كومنز


فريق كاميرا العربية

كانت القذائف الصاروخية التي أطلقتها التنظيمات الإرهابية من قطاع غزة على الأراضي الإسرائيلية يوم 31 من شهر مارس آذار 2019 قد سقطت على أراضٍ غير مأهولة من مساحة التجمعات السكنية الإسرائيلية المحاذية للقطاع (ما أصبح يُعرف بـ”غلاف غزة”)، وفق تقرير نشرته شبكة “سكاي نيوز العربية” في اليوم ذاته. بينما جاء التقرير بعنوان “إسرائيل تعيد فتح المعابر مع قطاع غزة” (أي رغم الاعتداءات الصاروخية انطلاقًا من أراضي القطاع)، إلا أن “سكاي نيوز العربية” ارتأت اعتماد الصيغة الآتية لدى تطرقها إلى رد الفعل العسكري الإسرائيلي على التصعيد المذكور:

وزعمَ الجيش الإسرائيلي أن القصف جاء ردا على صواريخ أطلقت من قطاع غزة في ساعة مبكرة من فجر اليوم وسقطت في مناطق مفتوحة داخل المستوطنات المحيطة بالقطاع.حتى وإن وضعنا الصياغة المتحيزة المتمثلة باستخدام الفعل “زعم” (الذي يوحي بالكذب) بالنسبة للجيش الإسرائيلي، فدعونا نركّز على قرار “سكاي نيوز العربية” وصف القرى والبلدات اليهودية الواقعة على تخوم قطاع غزة بأنها مستوطنات. إذ صار من المعروف لدى كل من يتابع الشأن الإسرائيلي الفلسطيني أن “المستوطنات” هي تلك التجمعات السكنية اليهودية التي أقيمت خارج حدود 1967 (أي خارج خطوط الهدنة المقرَّة دوليًا بين إسرائيل وجاراتها العربية والموقعة أصلاً في جزيرة رودس اليونانية عام 1949). وبناءً عليه تقتضي أي تغطية إعلامية موضوعية التمييز الواضح، الذي يستلزم دقة اختيار المصطلحات، بين المستوطنات الواقعة في مناطق ليست جزءًا من الأراضي الإسرائيلية وفق القانون الإسرائيلي نفسه (أي في الضفة الغربية وكذلك داخل قطاع غزة نفسه قبل الانسحاب الإسرائيلي منه عام 2005) وبين التجمعات السكنية داخل الأراضي الإسرائيلية.

صحيح أن الإعلام الفلسطيني والعربي بمجمله يتجاهل في أغلب الأحيان هذا الفرق الهام، غير أن وسائل الإعلام الغربية مطالَبة في نشراتها العربية تحرّي الدقة والحرص على استخدام المصطلحات الصحيحة. ويجب القول إن الوسائل الإعلامية هذه تقوم عادةً بواجبها على هذا الصعيد، لكن يؤسفنا القول إن لهذه القاعدة هناك الكثير من الاستثناءات التي لا يمكن لأي قارئ موضوعي التسليم بها مهما كانت دواعيها، أي سواء أكانت عفوية (أي مجرد خطأ أو قلة انتباه) أو متعمدة (لدوافع سياسية).

وإذا بدأنا متابعتنا لقضية وصف التجمعات السكنية داخل إسرائيل بالـ”مستوطنات” بشبكة “سكاي نيوز العربية” نفسها، فقد رصدنا خلال الأشهر الماضية استخدام هذا الوصف مرارًا وتكرارًا، وها نحن نقدم بعضها على سبيل المثال لا الحصر: إذ اختتمت الشبكة البريطانية الإماراتية تقريرها بعنوان “غازات إسرائيلية على مجمع عسكري لحماس” (يوم 26 مارس آذار 2019) بالجملة الآتية: “وأضاف مراسلنا أنه تم إطلاق ثلاثين صاروخاً من قطاع غزة باتجاه المستوطنات المحيطة بالقطاع قبل بدء سريان الهدنة”. وفي تقرير سابق للشبكة من ذات اليوم بعنوان “بعد نجاح الوساطة المصرية.. وقف إطلاق النار في قطاع غزة” اعتمدت الشبكة الصيغة نفسها قائلة: “من جانبها، ردت الفصائل الفلسطينية بإطلاق عشرات الصواريخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة”. وكانت “سكاي نيوز العربية” قد استخدمت نفس المصطلح، أي المستوطنات، عند حديثها عن قضية غزة في مناسبات عدة سابقة ومنها تقاريرها المنشورة في كل من يوم 25 نوفمبر تشرين الثاني 2018 ويوم 27 أكتوبر تشرين الأول 2018 ويوم 9 أغسطس آب 2018 ويوم 18 يوليو تموز 2018 ويوم 7 يونيو حزيران 2018 ويوم 29 مايو أيار 2018 (حيث أخطأت الشبكة بحديثها في المثال الأخير عن “مستوطنة إشكول” بينما لا توجد قرية إسرائيلية بهذا الاسم بل مجلس إقليمي أي هيئة إدارية مشتركة لعدة قرى). ويشار إلى أن وصف القرى اليهودية داخل إسرائيل بالمستوطنات عند “سكاي نيوز العربية” لم يقتصر على تلك المحيطة بغزة فحسب بل كان أيضًا، ولو بمناسبة واحدة (يوم 3 يناير كانون الثاني 2019)، من نصيب القرى في شمال إسرائيل المحاذية للحدود اللبنانية.

ولم تكن “سكاي نيوز العربية” الجهة الإعلامية الوحيدة التي وقعت في هذا الفخ، وإن كانت بشكل واضح الأشدّ ميلاً إليه (ونترك للقارئ تفسير مغزى الأمر..). إذ رصد فريق “كاميرا العربية” تكرار وصف القرى والبلدات الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة بالـ”مستوطنات” في تقارير هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في مناسبتيْن على الأقل إحداهما في تقريرها بعنوان “هل ما زالت هناك فرصة لهدنة طويلة الأجل بين إسرائيل وغزة؟” (يوم 13 نوفمبر تشرين الثاني 2018) حيث جاء فيه الحديث عن “هجمات صاروخية.. استهدفت المستوطنات الإسرائيلية المحاذية لمحيط قطاع غزة“، فيما تكرر الخطأ في تقرير نُشر على موقع بي بي سي العربية قبل ذلك بيوم (أي 12 نوفمبر تشرين الثاني 2018) بعنوان “مقتل قيادي في حماس وضابط إسرائيلي في عملية سرية للجيش الإسرائيلي في غزة“، حيث تضمن التقرير الجملة الآتية: “ودوت صافرات الإنذار في منطقة أشكول القريبة من القطاع والتي تضم مستوطنة إسرائيلية في شمال غرب صحراء النقب“.

بالمقابل، وتأكيدًا على أن الصورة ليست قاتمة تمامًا، يرجو فريق “كاميرا العربية” الإشارة إلى أن هناك وسائل إعلامية غربية أخرى، وفي مقدمتها وكالتا رويتر والفرنسية (أ ف ب) للأنباء، تحرص في نشراتها العربية على التمييز القاطع بين التجمعات السكنية الواقعة ضمن حدود إسرائيل المعترف بها دوليًا وبين “المستوطنات” الواقعة خارج هذه الحدود.

إعتمادًا على مقال باللغة العبرية نشرته عالمة الاجتماع الفلسطينية هنيدة غانم في مجلة “النظرية والنقد” اليسارية الإسرائيلية عام 2016، فإن كلمة مستوطنة أصبحت هي الغالبة في الخطاب الإعلامي والسياسي الفلسطيني أيضًا لوصف القرى والبلدات اليهودية التي أقيمت على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، غير أن الفلسطينيين يصرّون، بما يتماشى على الأرجح مع موقفهم السياسي، على رفض التمييز الاصطلاحي بين القرى والبلدات اليهودية الواقعة على جانبيْ ما يُعرف بـ”الخط الأخضر” (حدود 1967).

تجدر هنا الإشارة أيضًا إلى أن المفردة “مستوطنة” من باب اللغة لا تحمل بالضرورة دلالة سلبية بل يمكن اعتبارها حيادية أو حتى إيجابية نوعًا ما، ذلك لأن القواميس العربية ترى أن الفعل “إستوطن” بالنسبة لمكان ما يعني “إتخاذه وطنًا”. كما أن الكلمة “مستوطنات” أفضل بكل المعايير من مفردات أخرى كانت وما زالت شائعة في الخطاب الإعلامي العربي بمختلف تياراته وخاصة كلمة “مستعمرة” التي تربط مباشرة المشروع الصهيوني بالاستعمار الأجنبي السابق في الشرق الأوسط وكذلك كلمة “مغتصبات” (الرائجة تحديدًا لدى الفصائل الإسلامية الفلسطينية المتشددة وفي طليعتها حركة حماس).

أيًا كان الأمر، فلا يسعنا في الخلاصة إلا حثّ وسائل الإعلام الغربية الناطقة بالعربية على التمييز الواضح بين التجمعات السكنية اليهودية خارج حدود 1967 (التي أصبح وصفها بـ”المستوطنات” متداولاً) وبين نظيراتها داخل “الخط الأخضر”. إذ إن وصف التجمعات الأخيرة بـ”المستوطنات” أيضًا لا يمكن تفسيره إلا بإنكار حق دولة إسرائيل في الوجود ككيان سياسي معترف به دوليًا تحت أي حدود ونزع الشرعية عنه. ونتمنى بالمقابل أن تلجأ وسائل الإعلام الغربية الناطقة بالعربية، لدى حديثها عن التجمعات الإسرائيلية داخل حدود 1967، إلى الاستفادة من المفردات المختلفة التي يحويها القاموس العربي الثري لوصف التجمعات السكنية بمختلف أحجامها من قبيل “قرية” و”بلدة” و”مدينة” وغيرها.

أنظر تقرير مرصد الإعلام البريطاني التابع لمؤسسة (كاميرا) حول القضية ذاتها

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *